وقع العرب في خطأ كبير، بعد احتلال «إسرائيل» لأراضٍ عربية عام 1967 وحتى اليوم، عندما راهنوا على «السلام الإسرائيلي»، حيث صنفوا «الإسرائيليين» بين حمائم وصقور، وبين متشدّدين ومعتدلين، فيما كانوا يواجهون مجتمعاً عسكرياً إسرائيلياً موحّداً حول فكرة وهدف صهيونيين، معززاً بعقلية عنصرية متطرفة، وكراهية شديدة للغاية حيال العرب، تتناغم مع التوجه العدواني للقادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين على السواء.
في إطار هذا التوجه، ألغى الكنيست عام 1992 القانون الذي يساوي بين الإسرائيليين، أكانوا عرباً أم يهوداً، وبقيت «إسرائيل» تعامل العرب معاملة دونيّة من الدرجة العاشرة.
لقد توهّم العرب في وقت من الأوقات، أن استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تصبّ في صالح السلام القائم على العدل، كما كانوا يتوقعون ويتصوّرون، إلا انّ هذا الوهم تبدّد بعد الأوضاع الصعبة، والتطورات الميدانية التي شهدتها «إسرائيل» أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية عامي 2001 و2002 في المناطق المحتلة، حيث كانت استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تشير الى انخفاض تأييد الإسرائيليين لسياسات رئيس الحكومة آنذاك آرييل شارون نتيجة تعاطيه مع انتفاضة الفلسطينيين، إذ ظن العديد من المراقبين أنّ انخفاض شعبية شارون مردّها الى انّ غالبية الإسرائيليين لا يوافقونه على أعماله الحربية، وأنّ هذه الغالبية تتطلع الى السلام ووقف العنف! الحقيقة المرّة، هي أنّ استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي التي سجلت تراجع شعبية شارون حينذاك، وكما عكستها وسائل الإعلام الإسرائيلية، مردّها الى انّ شارون لم يستخدم بما فيه الكفاية من القوة العسكرية ضدّ الفلسطينيين، لفرض الأمن والقضاء على المقاومة الفلسطينية وليس من أجل السلام. ما أن لجأ شارون في ما بعد الى خياره في استخدام القوة العسكرية المفرطة، واقتحام جيشه المخيمات والمدن والمناطق الفلسطينية، وجرفها، وارتكابه الجرائم الجماعيّة، وتدميره للبنى التحتية، ارتفعت شعبية شارون بسرعة لتسجل رقماً قياسياً لم يسبق أن حصل عليه نظراؤه من قبل.
آرييل شارون لم يتخلّ لحظة عن سياسة تغيير الهوية والديموغرافيا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما في الضفة الغربية. في هذا المجال قال شارون في مذكراته: «منذ اليوم الأول لانتهاء حرب 1967 كنت أفكر في الموضوع، ولم يخطر في بالي فكرة التنازل عن الضفة الغربية لصالح الأردن، لأنّ اليهودية والسامرة لم تكونا أرضا أردنية»!.
لم يصل المجتمع الإسرائيلي بعد، – ولن يصل – الى مرحلة يقرّ فيها بحق الشعب الفلسطيني بالوجود، وبحق تقرير مصيره، وحقه بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة، إذ أنّ هذا المجتمع يختزن في عقله عقيدة تقوم على مبدأ الاستيلاء على الأرض، وتطهيرها من الوجود الفلسطيني…
نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي، لم يكن أفضل من شارون، بل كان أكثر سوءاً وعنصرية وإجراماً، ولم يخرج عن سياسة التوسّع والاحتلال، والقضم والضمّ للأراضي الفلسطينية. في كتابه «مكان بين الأمم»، يقول نتنياهو «إنّ مواطني «إسرائيل» يعارضون إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية… لأنّ مثل هذه الدولة ستلغي نهائياً قيمة المنطقة العازلة الموجودة حالياً على الجبهة الشرقية» (الأردن)… «إنّ مناطق الضفة الغربية حيوية لمستقبل الدولة، وسيتوصل الى هذا الاستنتاج القاطع، كلّ من يقف في يوم صافٍ على قمة جبل «ياعل حتسور» في السامرة، ليرى كلّ البلاد من أقصاها إلى أدناها، من غور الأردن الى البحر المتوسط. «إنّ أرض «إسرائيل» الغربية، أيّ المنطقة الموجودة حالياً تحت سيطرة «إسرائيل»، هي وحدة إقليمية، فيها سلسلة جبلية واحدة، تشرف على سهل ساحلي واحد، وكلّ من يقترح تقسيم هذه المنطقة إلى دولتين ينقصهما الاستقرار والأمن، يحاول الدفاع عما هو غير قابل للدفاع، ويكون كمن يدعو الى كارثة»!.
إنّ ســياسة الاســتيلاء على الأرض، والســلوك العنصــري للقادة السياسيــين والعسكريين الإسرائيليــين، والمجتمع اليهودي إزاء الفلســطينيين، سلوك عدائيّ واحــد لا يتجزأ. سلوك كشفه استطلاع إســرائيلي عام 2007، أظهر أنّ 50% من اليــهود يريدون منع الفلســطينيين من ارتياد أماكن التسىلية التي يتواجــدون فيــها، 72% مــن اليهــود يرفضون الســكن في بنايــات يســكن فيــها عرب، أكــثر مــن 50% مــن اليهــود يرفضون أن يــكون رب عملــهم عربــي. كما أظــهرت استطلاعات إسرائــيلية أخرى عام 2003 أنّ 53% من اليهود يرفضون مساواتهــم مع العرب، و 31% من اليهود فقط قبلوا بوجود ممثلين للأحزاب الســياسية الفلسطينية في الكنيست.
نزعة العنصرية والكراهية ظهرت بوضوح، ووصلت إلى ذروتها، عندما وصف رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغين الفلسطينيين كـ «حيوانات تسير على رجلين»! وهو نفسه مناحيم بيغن الذي قال في خطاب ألقاه في حفل العشاء الختامي الذي ضمّ وزيري خارجية الولايات المتحدة سيروس فانس، ومصر محمد إبراهيم كامل: «إنّ العرب تمتعوا بحق تقرير المصير في إحدى وعشرين دولة. وهم يريدون أن ينشئوا دولة جديدة بتقرير المصير، ليقضوا على مصيرنا. إنني أقولها صريحة عالية، لا لتقسيم القدس، لا للانسحاب الى حدود 1967، لا لحق تقرير مصير الإرهابيين». (مذكرات محمد إبراهيم كامل: السلام الضائع في اتفاقية كامب دافيد).
لم تتوقف العنصرية الإسرائيلية الكريهة عند بيغن، إذ سار على نهجه رئيس الأركان الاسبق رفائيل إيتان عندما وصف الفلسطينيين على أنهم «صراصير في زجاجة»! هذه العنصريّة تنسحب أيضاً على استطلاع واستقصاء داخل معاهد التعليم الإسرائيلي، والذي يشير الى انّ 73% من اليهود يعتبرون أن العرب «أميين وبرابرة!».
أيّ سلام ينتظره الأغبياء في هذه الأمة من «إسرائيل»؟ وأيّ نوع من الدولة الفلسطينية التي سيقبل بها القادة الصهاينة والأحزاب الإسرائيلية؟!
هل بقي أمام الفلسطينيين من وسيلة مجدية تصحّح مسارهم لاستعادة أرضهم والحفاظ على وجودهم وحقوقهم المشروعة غير مقاومة المحتلين الإسرائيليين مهما كلّف ذلك من ثمن؟! وهل سيقرّ العديد من القادة العرب في نهاية المطاف، بخطأ رهانهم على «سلام» وهميّ يتكلم عنه العدو، وهو المُصرّ على نهجه التوسعيّ وسلوكه العدواني المستمر؟!
غزة اليوم كشفت بشكل قاطع لا لبس فيه حقيقة دولة الإرهاب وأهدافها، ونياتها، وأكاذيبها، وفضحت زيف مواقف الدول التي كانت تتشدّق على الدوام بالحرية، وتبدي حرصها على العدل والسلام والاستقرار وحقوق الشعوب، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة وبريطانيا.
كما عرّت غزة حقيقة المواقف الجبانة والمخزية لدول عربية وزعماء عرب، ما كانوا يوماً إلا احتياطاً، ورصيداً في خدمة القوى الغربية، وحليفتها «إسرائيل».
من أجل الإطاحة بالنظام في سورية وتدميرها، واتخاذ القرارات الصارمة بحقها، دبّت «نخوة» العرب، حيث عقد مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية 32 اجتماعاً بين 27/8/2011 وحتى 23/9/2013. عشرون اجتماعاً وزارياً، و12 اجتماعاً على مستوى الوزراء المندوبين.
من 27/8/2011 وحتى 2/11/2011 تاريخ تعليق عضوية سورية، أيّ خلال شــهرين ونصــف الشـهر فقــط، تزاحمت الجامعة العربية على عقد 5 اجتماعات وزارية مخصّصــة للأزمة في سورية، و5 اجتماعات للجــنة الوزارية العربية المعنية بالوضع في سورية، لتتجلى بعد ذلك «شــهامة» و«نخوة» و»عروبة» المتباكين على سورية، ليقوموا على عجــل بفرض العقوبات السياسية، والاقتصادية، والمالية، وقطع العلاقــات الدبلوماسية مع دمشق، وتقديم كافة وسائل الدعم العسكري والمادي، واللوجستي والإعلامي للفصائل الإرهابية التي عبثت بالدولة السورية.
ما أوقح الذين «تهاوشوا» على سورية ودمّروها، كما اعترف أحد ابرز المشاركين في التآمر عليها! فأين هؤلاء اليوم حيال مما يجري في غزة من إبادة جماعية وتدمير شامل، وأين هي غيرتهم وشهامتهم، وعروبتهم؟ وما الذي فعلوه من أجل غزة؟! أين هي عقوباتهم الاقتصادية والمالية والتجارية على «إسرائيل»، وأين هو إغلاق أجواء بلادهم أمام الطائرات الإسرائيلية مثل ما فعلوه مع سورية؟! في وجه سورية أغلقوا حدودهم، وفي وجه «إسرائيل» شرعوا أبوابهم لها لتأمين السلع إليها، في الوقت الذي تجوّع فيه شعباً عربياً بأكمله في غزة!
غزة كشفت النقاب عن الوجوه الغادرة من منافقين، وعملاء، ومن قتلة الأمة والمتآمرين عليها، وعرّت حكاماً ما كانوا يوماً إلا عبيداً مأمورين في خدمة أسيادهم ورعاتهم.
عذراً غزة! وإنْ خذلك وتواطأ عليك أشباه الرجال، فأنت ستبقين فخر الأمة وعزتها وكرامتها، تكتبين ملحمة خالدة منذ السابع من تشرين الأول/ اكتوبر، تسطرين بيد تاريخاً مشرّفاً من العنفوان، والصمود والصبر
والاستشهاد، وترفعين باليد الأخرى تباشير التحرير، والنصر الأكيد…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق