في ذكرى الجمهورية العربية المتحدة: لا قيامة للأمة دون وحدتها!

وزير الخارجية والمغتربين الأسبق عدنان منصور
0

لم تكن قوى الإستعمار التي سيطرت على دول عديدة في العالم ، وبالذات على منطقتنا المشرقية، أن تتقبل بأي صورة من الصور، حدا أدنى من الوحدة التي تجمع شعوب المنطقة ، خاصةبعد سقوط الخلافة العثمانية ،وما الحقته هذه الخلافة بشعوبنا من اذلال وفقر وبؤس، واستبداد . لقد عمدت قوى الإستعمار بكل قوة على منع شعوب الأمة من ارساء دعائم دولة قومية متحدة مقتدرة، تنطلق بكل قواها لبناء مجتمع جديد،تنهض بالإنسان، وتواكب التطور الانساني والتقدم في العالم، وتعزز قيم الحق والعدل.

لقد عرفت قوى الإستعمار جيدا، مدى قدرات وإمكانات شعوب المنطقة، وما تختزنه من طاقات فكرية وإرث حضاري ، وثروات هائلة متنوعة ،وموقع
جيو سياسي استراتيجي، وتجاري، واقثصادي، يؤهلها لأن تكون في موقع متقدم، يضع حدا لهيمنتها ، ونفوذها السياسي والعسكري، واستغلالها ونهبها
لثروات المنطقة في مختلف المجالات. لقد رأت قوى الاستعمار، ان الوحدة القومية لشعوب المنطقة إذا ما تحققت، ستشكل مستقبلا خطرا ، وتهديدا مباشرا لمصالحهاوامتيازاتها،وتواجدها ،وتعطل اهدافها
الاستراتيجية ، وهيمنتها الواسعة. لذلك عمدت بكل قوة وشراسةالى الوقوف في وجه التطلعات القومية الوحدوية لشعوبها ، وأحباط وإفشال أي مشروع او خطوة تصب في هذا الإتجاه . لذلك، ومن أجل الالتفاف على اي نهضة قومية وحدوية ، قامت دول الاستعمار بطرح المشاريع الطائفية لتكون بديلا عنها. إذ أن القومية تجمع وتوحد، تقوي وتعزز النسيج الوطني العربي الواحد للأمة، وتبلور أهدافه المشتركة، في الداخل والخارج، على غير الطائفية التي تفرق وتقسم، تثير الحساسيات والأحقاد ، وتدفع بالمواطنين الى التقوقع ، والتغرب عن المجتمع الواحد، فكرا ، وعقيدة، ونهجا، وسلوكا ،وانتماء، وولاء. طائفية تدفعهم بارادة او دون ارادة ، للعيش في “غيتوات” منفصلة فكريا، وثقافيا ، وإجتماعيا، وسياسيا،وحياتيا، غيتوات على ارض خصبة ،هي أقرب للخصام والإختلافات منها ،الى الوفاق والوحدة، ولو أن الجميع يتواجدون على ارض جغرافية واحدة.

مع بداية تفجر الوعي القومي العربي لشعوب الأمة، مع مطلع القرن العشرين ، ودعوات المفكرين والكتاب من حزبيين وسياسيين وطنيين ،الى وحدة بلاد الشام ، وما أثارته هذه الدعوات الوحدوية ، من هواجس ومخاوف الإستعمار البريطاني والفرنسي ، وما قد ينجم عن الوحدة، من نتائج سلبية يهدد ويطال بالصميم الوجود الإستعماري ، وما يمكن لليقظة القومية والوعي ان ينجزه ويطبقه على الارض، ويطيح بمصالحه واهدافه وخططه. لذلك ، كان عليه العمل بكل شراسة، على إجهاض التطلعات الوحدوية القومية، والإلتفاف عليها من خلال مؤامرة وعد بلفور ، ومنع قيام الدولة الواحدة ، والإصرار على تقسيم المنطقة المشرقية العربية الى دول ، يراد منه ابعادها عن أي تطلع وحدوي، حتى تظل غارقة في مستنقع الطائفية الانعزالية، والخلافات السياسية الدائمة، تؤجج مكوناتها الاجتماعيةوالوطنية
الحساسيات الداخلية ، والخوف والحذر وعدم الثقة في ما بينها، لتبعدها بعد ذلك ، عن أحوج ما تكون اليه ،الى الوحدة القومية والأهداف المشتركة، والمصير والإرادة الواحدة.

هكذا فعل الاستعمار البريطاني بعد إعلانه لوعد بلفور عام 1917، وزرعه في ما بعد الكيان الصهيوني في فلسطين، ورعايته له. هكذا عمل ايضا الاستعمار الفرنسي حين قوض وحدة العراق وسوريا أيام فيصل الاول، وما فعله المندوب السامي الفرنسي هنري غورو عام 1920 , بانشاء لبنان الكبير ، بنموذج طائفي فريد مقيت،لا زلنا نعاني من ٱثاره السلبية وتداعياته المدمرة حتى اليوم.

لم يقتصر هذا الأمر على لبنان وحده، بل اراد الفرنسيون ان يعمموا النموذج الطائفي على سوريا ليضربوا بالصميم روح قوميتها ووحدتها، ودورها، ومكانتها في قلب الأمة ، وينشئؤا على ارضها كيانات طائفية تصب في خدمة الإستعمار ومصالحه. الا ان الوعي القومي للشعب العربي السوري ، وانتماءه الوحدوي الفطري، ونضاله الوطني، أفشل مشروع المستعمر ، وأحبط الدويلات الطائفية على أرضه، انطلاقا من نضال ومفهوم قومي موحد جامع لمكونات الامة وأطيافها.

إن هدف الاستعمار كان ولا يزال ثابتا ، ولم يتغير تجاه الامة وشعوبها، فهو لن يقبل ان يتوحد العرب، وبالذات شعوب المنطقة المشرقية التي عرفت تاريخيا وجغرافيا، وحضاريا ووجوديا ببلاد الشام ، حيث جسدت على الدوام وجدان الامة ونبضها ، وقيمها، وعقيدتها ومبادئها، ومقاومتها المستمرة ضد قوى الإحتلال والتسلط.

من هنا كانت المواجهة الشرسة وستظل، بين القوى القومية الوطنية ، العاملة من أجل حريتها ووحدتها ،
وقوى الهيمنة الغربية المعادية لأي شكل من اشكال الوحدة.

إن موقف قوى الإستعمار القديم، والجديد حيال أي تعاون ،او تنسيق، أو تكامل أو وحدة بين شعوب المنطقة ، موقف معاد وشرس وسافر، لن يتغير، ولن تتراجع عنه بسهولة .فهي لم تكتف بالتقسيم القسري ورسم حدود دول المنطقة على طريقتها، ووفق رغباتها فحسب، بل عمدت على الدوام الى إثارة وإشعال الفتن الدينية والمذهبية، والعرقية ، ودعم التطرف داخل كل قطر من أقطار المنطقة، وتأجيج الصراعات والخلافات السياسية والنعرات الطائفية ، واعتماد سياسة الإحتواء، والإكراه، والضغط ، والتفرقة، لحين وجدت الشعوب نفسها وأنظمتها الوطنية تتخبط في مشاكلها، وترى نفسها بعيدة عن وحدتها القومية، ما جعلها تتفرغ للاولويات التي تستدعي مواجهة أوضاعها الداخلية الخطيرة التي استجدت، حيث كان لأعدائها اليد الطولى في زعزعة الاستقرار والامن، والوقوف وراء الإضطرابات هنا وهناك، ما توجب عليها قسرا ، صرف النظر مؤقتا عن العمل على تحقيق الوحدة القومية ، والإلتفات الى مسائل داخلية خطيرة ، بحتم عليها العمل المباشر، بكل قوة للحفاظ على الوحدة والنسيج الوطني لكل بلد، كون الوحدةالوطنية، والحفاظ على نسيج الشعب الواحد ، تبقى المقدمة الرئيسة للوحدة القومية لا العكس. خاصة، بعد ان استطاعت القوى الغربية ان تمزق وحدة الصف الوطني لشعوب المنطقة المشرقية، من خلال قوى الارهاب، والدعوات الأصولية المتطرفة، والأفكار المتحجرة، والطروحات السياسية الانعزالية، التي رعتها وغذتها القوى المتربصة في الخارج، ووفرت لها كل وسائل الدعم والإمكانات ،لضرب وزج ابناء الوطن الواحد في مواجهات دموية ، ومعارك ساخنة ، ألحقت الدمار بدول المنطقة ، وخلخلت مجتمعاتها واصابت بالصميم وحدة شعوبها.

اليوم ونحن في مواجهة مستمرة لا تتوقف مع قوى العدوان والتسلط ، نرى أنه لا بد لقوى النهضة الوطنية القومية من أخذ المبادرة من جديد ، واللجوء الى المقاومة بكل قوة وحزم،وعلى مختلف الصعد، لإفشال ما درج عليه الغرب في نهجه ومؤامراته على الأمة كلها، وحرمانها من اي تنسيق او تعاون أو وحدة أو عمل مشترك.

كيف يمكن لدول الاتحاد الاوروبي مثلا، التي سجل تاريخها العداوات، والحروب ، والكراهية ، والنزاعات، وكانت أوروبا سببا لحربين عالميتين، أن تلتقي شعوبها في ظل اتحاد، رغم الفوارق الحضارية، والثقافية، واللغوية، والقومية، والطائفية والجغرافية، والتاريخية .؟! كيف يسمح لقبرص ان تلتڨي داخل الاتحاد مع السويد ،رغم التباينات العديدة بينهما، وان تلتقي مالطا مع المانيا، واليونان مع البرتغال، رغم الفوارق المختلفة, ووو، ويمنع بالتالي أن تلتقي دمشق مع بغداد، او بغداد مع بيروت، او دمشق مع القاهرة، او دمشق مع عمان،في الوقت الذي يوحد شعوبها، حضارة مشتركة، وروابط الجغرافيا والتاريخ،
واللغة، والروحانية، والأمل والمصير الواحد؟!

أيهما اقرب وأيهما يوحد ؟! دمشق وبيروت، ام قبرص والسويد ؟! القاهرة وبغداد، ام مالطا والمانيا؟! عمان والقدس، ام اليونان واسبانيا؟!

لقد وجدت هذه الدول قوتها وتقدمها ومنعتها واحترامها داخل الاتحاد الاوروبي. فما الذي يمنع شعوب أمتنا الموحدة اصلا ، والمقسمة قسرا على يد قوى الاستبداد والاستعمار، من أن تستعيد تاريخها وكرامتها وقرارها ووحدتها من جديد! فلتعلم شعوب الامة كلها ، أن لا قوة لها ولا إستقلالا حقيقيا، ولا اعتبارا لها من قوى الاستكبار والاستغلال ، ولا نهضة حقيقية تستطيع تحقيقها بعيدا عن وحدتها. فخلاصها ومكانتها ونهضتها وقوتها وسيادتها في اتحادها ولا في شيئ ٱخر .

إنها مهمة كل القوى الوطنية القومية، المناضلة الحرة التي تؤمن بوحدة أمتها، التي هي طريق الخلاص والاقتدار والنهضة والتقدم التي تصون شعوبها وقوميتها، وتحمي ارضها وسيادتها .

لنأخذ العبرة من وحدة الشعوب التي سبقتنا، ومن قادتها، من بطرس الاكبر، وكاترين الثانية، مرورا ببسمارك، وغاريبالدي، وجورج واشنطن، وهو شي منه ، وصولا الى جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وهي اول وحدة عربية في العصر الحديث، ضمت دولتان عربيتان ، مصر وسوريا ولو أن هذه الوحدة ضربت يوم 28 ايلول 1961، على يد الرجعية العربية والغرب ، ما أدى الى الإنفصال بعد سنوات قليلة من إعلانها يوم 22 شباط 1958 .

تبقى الوحدة اولا واخيرا ، وقبل أي اعتبار ٱخر، الخلاص الوحيد للأمة، كي تستعيد دورها وانطلاقتها من جديد ،لتزيح عن كاهلها، دولة الاحتلال الصهيوني وتمحي ٱثار الإستعمار وسياساته المستبدة بحقها وحق شعوبها على مدار اكثر من قرن من الزمن.

إن خلاص الأمة له طريق واحد لا غنى عنه، وهو طريق المقاومة ، التي تبقى بوصلة الشعوب الوحيدة في تحقيق أهدافها في الحرية والوحدة والسير في نهضتها وتقدمها. فالوحدة ليست حلما أو وهما كما يتصور بعض المتخاذلين، انما واقعا علينا تحقيقها وإنجازها بكل عزيمة ، دون ان نفوت الفرص، ونضيع الوقت.

د.عدنان منصور

لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.