منذ أن بدأ النزاع حول ترسيم المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة إلى لبنان مع «إسرائيل»، بعد الاتفاق الأوّلي مع قبرص عام 2007، وما نجم عنه من تقصير، وإهمال غير مبرّر، وتسرّع لبناني، في تحديد الإحداثيات الدقيقة لمنطقته الاقتصادية البحرية الحصرية، ومن ثم طرح لبنان في ما بعد إحداثيات جديدة يعتمد فيها على مبادئ قانون البحار، والقانون الدولي، وعلى حدوده الدولية المعترف بها من قبل عصبة الأمم، فإنّ الترسيم الجديد للبنان، وبعيداً عن الترسيم الذي جرى مع قبرص، أكسبه مساحة 860 كلم2، بعد أن حدّد نقطة 23 الواقعة جنوب النقطة1. وهذا ما نشأ عنه نزاع بين لبنان و«إسرائيل» التي تمسّكت بالترسيم الأوّل للبنان معتمدة في ضوئه، النقطة 1.
بعد دخول الوسيط الأميركي فريدريك هوف عام 2012 على الخط، تقدّم باقتراح لتقسيم المنطقة الاقتصادية البحرية المتنازع عليها، على أن يأخذ لبنان 00/52 و«إسرائيل «00/48.
لبنان رفض هذا الحلّ وظلّ متمسكاً بكامل حقوقه القانونية، من دون أن تتوقف المساعي الأميركية للتوصل الى حلّ الخلاف المستحكم. هذه المساعي أتاحت المجال للطرفين اللبناني والإسرائيلي، أن يجريا مفاوضات غير مباشرة تحت رعاية الأمم المتحدة وبحضور الوسيط الأميركي.
مع بداية هذه المفاوضات تقدّم لبنان بإحداثيات إضافية جديدة توصل إليها، معززة أيضاً بالقانون الدولي وقانون البحار، ومستنداً إلى إحداثيّات مشابهة اعتمدتها دول في العالم، ما أضاف الى المساحة 860 كلم2 التي كان يطالب بها لبنان ورفضتها «إسرائيل»، مساحة تبلغ 1430 كلم2. من خلال هذا الترسيم الجديد تصبح المساحة الكلية التي يطالب بها لبنان 2290 كلم2. وهذا ما يرفض العدو بشكل قاطع الاعتراف والإقرار به.
مما لا شك فيه، أنّ «إسرائيل» ليست على عجالة من أمرها لإيجاد حلّ سريع للنزاع، وليست متلهّفة له، كما يعتقد ويتوهّم البعض من الذين يتابعون ملف المفاوضات والترسيم. فهي من جانبها تنقب عن النفط والغاز في المناطق التي تحتلها في فلسطين، ولا مشكلة لديها، كما خطت خطوات واسعة وبعيدة في هذا المجال. وهي تعلم جيداً، وبشكل قاطع، انّ لبنان لن يستطيع استخراج الطاقة من مياهه، وفي أيّ بلوك من البلوكات العائدة له، طالما أنه لم يوقع على اتفاق نهائي معها لترسيم المنطقة الحصرية. إذ إنّ واشنطن الداعمة دائماً لتل أبيب، وتتماشى مع طروحاتها وسياستها في هذا المجال من دون تحفظ، ستعيق معها وستفشل أيّ عملية تنقيب من قبل الشركات الدولية التي تعتزم التنقيب في المنطقة البحرية الحصرية للبنان، نظراً لما لدى واشنطن واللوبيات اليهودية في العالم من تأثير ونفوذ كبير وضغوط، وما تحمله في جعبتها من إجراءات وعقوبات جاهزة غبّ الطلب، لمنع هذه الشركات من القيام بأيّ تنقيب قبل تسوية النزاع مع تل أبيب.
من المؤكد أنّ «إسرائيل» لن تقبل بإحداثيات لبنان، بشكل قاطع، وبالتالي، لن تطرح واشنطن أيّ حلّ لا يرضى به الكيان «الإسرائيلي». وإذا ما أصرّ لبنان على موقفه، فهذا يعني فشل المفاوضات بكاملها. لكن ما الذي يمكن للبنان أن يفعله بعد ذلك؟! بالطبع، لبنان لن يقوم بأيّ عمل عسكري لتحصيل حقوقه، فهذا غير وارد لاعتبارات عديدة محلية ودولية. كما أنّ «إسرائيل» لن تقوم بالتنقيب في المنطقة المتنازع عليها، حتى لا تعطي الحجة والذريعة للبنان والمقاومة بالذات للقيام بردّ فعل عسكري عنيف ضدّها، قد يتوسّع ويأخذ أبعاداً كبيرة وخطيرة، يهدّد كامل منشآتها النفطية والغازية، وهذا ما لا تريده «إسرائيل».
«إسرائيل» ومعها جهات إقليمية ودولية لا تريد لبنان ان يكون في الوقت الحاضر دولة نفطية، لاعتبارات وحسابات سياسية وأمنية واستراتيجية عديدة. لذلك، سيستمرّ النزاع «السلمي» حول المنطقة البحرية المتنازع عليها، من دون أن تنقب «إسرائيل» فيها، ومن دون أن يستطيع لبنان استغلال ثرواته، لأنّ الشركات الأجنبية التي ستحاول التنقيب، ستجد رفضاً أميركياً و«إسرائيلياً» واضحاً وصريحاً يقف في وجهها، يترجم من خلال ممارسات التهويل، والتهديد، والحصار المالي، والعقوبات، والمقاطعة لها، وهذا ما سيجعل الشركات الأجنبية تتجنّب الاستثمار في منطقة متنازع عليها، ومتفجرة في أيّ وقت. فالشركات في نهاية الأمر تبحث عن ملاذ آمن لمشاريعها وليس عن أماكن توتر، تنذر بتطورات وأحداث لا تعرف مدى حجمها وتداعياتها الخطيرة.
هذه السياسة الخبيثة لـ «إسرائيل»، والدعم الأميركي اللامحدود لها، والتناغم الدائم مع مصالحها، وإجراءاتها، وقراراتها، وسياساتها، تجعل لبنان معلقاً، بحيث إنّ واشنطن وتل أبيب تعلمان مسبقاً، أنّ لبنان لن يستخدم القوة العسكرية لينتزع من العدو ما يريده من حقوق مشروعة، وأنه بالتالي، لن يتمكن من استغلال ثرواته البحرية. وعليه أن يتحمّل تبعات رفضه للترسيم الذي تريد «إسرائيل» فرضه على لبنان.
بهذه المعادلة، تعمد «إسرائيل» إلى تعطيل مشاريع التنقيب، التي يعمل عليها لبنان ويعتزم تنفيذها في منطقته البحرية الحصرية، من خلال حرب «سلمية ناعمة»، محصّنة بأمر واقع «إسرائيلي»، وتوافق أميركي ـ «إسرائيلي»، يبعد عنها شبح الحرب.
فأيّ قرار سيتخذه لبنان في ما بعد، حتى لا يبقى على لائحة الانتظار الطويل لاستغلال ثرواته، ويبقى رهينة إرادة وسياسة الثنائي الأميركي ـ «الإسرائيلي»؟!
قرار وطني جامع موحّد، بانتظار لبنان، بعد المفاوضات غير المباشرة التي لن تسفر بكلّ تأكيد عن الحلّ النهائي العادل الذي يطالب به لبنان ويضمن حقوقه الكاملة في ثرواته البحرية.
لبنان بحاجة الى قرار، حتى لا يبقى الوضع على حاله، وحتى لا يظلّ مكتوف اليدين، يرى العدو يسير في تنقيب الثروات، ويبقى هو على قارعة الانتظار لوقت لا يعلمه أحد
الدكتور عدنان منصور
وزير الخارجية والمغتربين الأسبق