لبنان وكابوس أحزابه!

وزير الخارجية والمغتربين الأسبق عدنان منصور
0

شهد لبنان على مدار ثمانين عاما واكثر، ما هب ودب من الاحزاب المتنوعة. منها احزاب علمانية وطائفية، إقطاعية وثورية، تقدمية ورجعية، يسارية ويمينية، شرقية وغربية، إشتراكية ورأسمالية، وحدوية وانعزالية، وطنية ومحلية، عائلية ومناطقية.

أحزاب أدارها كل أصناف البشر، نادت بالحرية، والعدالة الاجتماعية، وبناء الدولة، والمؤسسات، إلى ما هنالك من المفردات الجذابة التي تسيل لعاب كل مواطن حر يتطلع الى مجتمع يتحقق فيه العدل والتقدم والرفاهية!

بعد ثمانين عاماً وجد اللبنانيون وطناً يترنح، ويتحلّل أمام عيون هذه الاحزاب، والتيارات، والحركات، والمنتديات السياسية، والفكرية، وهي تشاهد انهيار وطن، وبؤس شعبه وتفكك مؤسساته.

على مدار ثمانين عاماً، رفعت غابة من الشعارات، والأعلام، واليافطات، وصور الزعماء، وعمت المهرجانات، والمظاهرات أرجاء الوطن، وتزاحمت فيه الخطابات، والمؤتمرات، والندوات الحزبية، والفكرية، والسياسية والعقائدية، الى أن اصبح لكل منطقة أميرها، ودستورها، وعلمها، وشعارها،
ونشيدها، وثقافتها، وإعلامها الخاص بها، في حين أصاب معظم هذه الاحزاب الترهل، وأصبحت عبئا ثقيلاً على وطن وشعب على السواء.

إذا كانت غالبية الاحزاب أمام  تحلل البلد، لم تستطع ان تمنع انهياره، أو إنقاذه، أو تقف في وجه الطغمة من ناهبيه ومدمريه، فما الداعي بعد ذلك الى وجودها، وبقائها، والاستمرار في نهجها وأدائها العقيم؟!

من الغرابة ان الاحزاب في لبنان تتقدم وتتمدد كلما ارتفع منسوب خطابها  الطائفي، وشحنها المذهبي،
وتتراجع وتتقلص كلما أخذت بعداً قومياً ووطنياً إذ  أنه في كل مرة تريد الاحزاب معالجة مشاكل البلد السياسية، والوطنية، والاقتصادية، والحياتية، والخدمية، نراها تعالجها من منظار طبقي أو طائفي،
او مناطقي بحت، وهذا ما جعل المواطنين غير  الحزبيين، أن يشعروا بالاحباط لجهة دور الأحزاب واهدافها،وفعاليتها، وصدقيتها، ما جعل ثقتهم بها تنعدم لأن هذه الاحزاب أثبتت عن فشلها الذريع، وعجزها الفاضح في الدفاع عن حقوق  الشعب، وحمايته، لا سيما في الاوقات الصعبة التي عانى منها اللبنانيون إذ لم تستطع، وهي التي شاركت فعلياًةفي الحكم وفساده، من تحصين البلد وإخراجه من أزماته، وتجنب انهياره، لأنها كانت العلة والسبب الرئيس في ايصال لبنان الى الانهيار الذي هو فيه على اعتبار أن هذه الاحزاب التي شاركت في السلطة، كانت تلجأ الى التسويات، وتوزيع الادوار، ولفلفة الأمور، وتقاسم الصفقات، والاحتكارات، والامتيازات، والحصص، وهي تهادن وتراهن، تغض النظر  عن تجاوزات السياسات الفاسدة، وخرق القوانين وتجاوزها.

الى جانب ذلك، نشهد، من وقت الى ٱخر، أحزاباً تتخبط في مشاكلها الداخلية نتيجة الخلافات من هنا، وانسحابات من هناك، مع ما يرافق ذلك  من  عداوة وتخوين، وتراشق بالاتهامات، ما يؤدي بعد ذلك الى تفسخ الاحزاب، فتنبثق عن الحزب احزاب، وعن التنظيم تنظيمات، وعن الحركة الواحدة حركات!

هل حاولت الاحزاب يوماً اعادة النظر في فكرها، ونهجها وممارساتها، وادائها، وسلوكها، وأخطائها، لمعرفة الاسباب الجوهرية التي أدت الى فشلها في تحقيق اهدافها، والدوافع التي كانت وراء فشلها، وتراجعها وتفككها، وانسحاب قيادات واعضاء منها، والانفصال عنها، وتأسيس احزاب وتكتلات جديدة موازية لها!

كيف يمكن لهذه الاحزاب تنفيذ برامجها، وتحقيق اهدافها في بلد انهار فيه كل شيء؟! وأين دورها الفعال في ملاحقة مسؤولين إرتكبوا جرائمهم  ضد الوطن وأرجعوه خمسين سنة أو أكثر الى الوراء، نتيجة حكم طغمة ادارت مؤسسات الدولة ومرافقها على طريقتها الخاصة، وجعلتها في خدمة مصالحها الشخصية، وعلى حساب حقوق الشعب  المسكين.

هل قامت الاحزاب يوما، خلال مسيرتها الطويلة بنقد ذاتي، وتقييم أدائها بشفافية، مترفعة عن غرورها، وتصلبها، وعن فائض الثقة في نفسها،رغم  إصرار البعض فيها، على المضي في نهجهم الاعوج، حرصا منهم على الزعامة، والوجاهة، والانانية الضيقة، والمنفعة الخاصة، والبريق الشخصي؟!

الا تشعر هذه الاحزاب، حتى الآن، أن رصيدها الشعبي يتٱكل، ونورها يخبو!

فعلام الاستمرار إذن في ممارساتها العقيمة وسياساتها الفاشلة؟!

كيف يمكن لأحزاب ان تحقق أهداف الشعب، فيما تحكمها بالوراثة عائلات اقطاعية، ومالية، وسياسية، تتنقل بين الاب والابن والحفيد، وعند الضرورة بين الزوج والصهر وابن الأخ والشقيق!

كيف يمكن لأحزاب “عائلية”، ان تدّعي انها تجسد ضمير الشعب وتطلعاته، وهي التي لم تستطع، مجتمعة، أن تتجاوز اطارها الطائفي والجغرافي الضيق المحصور بها، او تتعدى حدود المنطقة او المدينة!

كيف يمكن لأحزاب عقائدية علمانية، ذات المسار والتاريخ الطويل، ان تحقق اهدافها، في الوقت الذي يتراجع عددها، وانتشارها، ورصيدها الشعبي،
واداؤها مع الايام، وهي تشهد، من آن الى ٱخر، خلافات، وتصدعات، وانشقاقات في داخلها!

كيف يمكن لأحزاب طائفية في الشكل والاساس، أن تحاور، وتغطي مروحتها مساحة الوطن، والشعب الواحد، وتعبر عن وحدته، وٱماله، فيما هي تستقطب في تركيبتها الحزبية، اكثر من 98% من ابناء طائفتها!

أليس واقع الاحزاب المتمثلة في السلطة يعكس صورة الحالة المزرية التي نراها  على الارض يوميا!

تجاه هذا الواقع التعيس من يتحمل المسؤولية؟ إذا كانت المسؤولية في جزئها الاكبر تقع على عاتق الاحزاب على اختلافها، فإن المواطنين، وبالذات غير الحزبيين، يتحملون قسطاً كبيراً من المسؤولية
لجهة انهيار الدولة ومؤسساتها؛ إذ أن غالبية الشعب، كما الأحزاب، تحتاج اليوم الى ثورة على ذاتها، لإعادة تهذيب فكرها، ونهجها، وسلوكها ومفاهيمها، وممارساتها من جديد، بعيداً عن العصبية الطائفية، والجهل، والتعصب، والشعبوية، والتحجر والاستعلاء على  الٱخر.

بعد كل الازمات والكوارث التي حلت باللبنانيين، والتي ارتكبها بحقهم مافياويو السلطة، وكانوا العلة والسبب المباشر في سرقتهم وتجويعهم، وإفقارهم وإذلالهم، وبعد لا مبالاة وحوش المال، وتعمد مافيا السلطة والاحتكارات عدم استرجاع المال المنهوب والمسوّق والمهرب للخارج، وتحقيق الاصلاح،
والتمنع المتعمد عن ملاحقة، ومحاكمة الفاسدين، وبعد ان فشلت الاحزاب على انواعها، والطبقة الحاكمة في بناء دولة عادلة قوية، وكانت السبب في انهيار  البلد، لم يبق أمام اللبنانيين سوى حزب واحد للالتفاف حوله، وهو أحوج ما يكون اليه الشعب اليوم بكل اطيافه، هو”حزب القصاص”، حزب يصحح بوصلة الوطن، لا يعرف الخطوط الحمر، يتجاوز الزعامات والطوائف والمناطق. لا يتبع دينا، ولا طائفة، ولا زعيما، ولا يخضع لأي جهة خارجية، إنما يتبع ضمير ووجع الناس، وحكم الشعب! حزب له هدف واحد: اقتلاع طبقة النظام الفاسدة من جذورها والعقاب الصارم لكل الفاسدين الذين اغتالوا الوطن ، ودمروا شعبه، وأذلّوه، وهجّروه، وغرزوا اليأس في نفوسه.

وحده القصاص لا مفر منه، الذي اصبح  حتمياً، بعد أن غطى الفاسدون في القضاء، أصحاب النفوذ في السلطة، وحموا قراراتهم السياسية، والإدارية، والمالية المشبوهة، وضربوا بالقوانين عرض الحائط، دون أن يلتزموا بقسمهم، ويصونوا شرفهم، وشرف المهنة، في تطبيق العدالة المناطة بهم.

الذي يتولى العقاب يعرف جيدا الخيارات والوسائل
المحقة الواجب اتباعها، والتي بعد اليوم لا غنى عنها للاقتصاص من مدمري الوطن والشعب، وردعهم كي ينالوا الجزاء العادل بحقهم!

لا تضيعوا السنين وأنتم تبحثون عن الاصلاح في نظام  طائفي مهترئ عفن، لا اليوم ولا بعد مائة عام، قبل اجتثاث طبقته المدمرة، عندها يمكن الحديث عن بناء دولة العدالة وحقوق الانسان، وتحقيق الإصلاح المنشود! عدا عن ذلك لا يحلم المواطن بوطن يتحقق فيه التقدم، والعدالةالاجتماعية، والحياة الكريمة.

إقطعوا اصابع اخطبوط الفساد والاحتكارات، والدولة العميقة، والنهب المنظم لثروات الوطن، وبعد ذلك تكلموا عن بناء دولة المواطنة، والمساواة، والاصلاح والتغيير!

لبنان/ د. عدنان منصور

وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.