في ظلّ التشابك الدولي، والحرب في أوكرانيا، والمتغيّرات السياسية في المنطقة المشرقية، والتطورات المتلاحقة في جنوب شرق آسيا، أتت زيارة الزعيم الصيني شي جين بينغ الى روسيا.
زيارة رسمية استغرقت يومين، كانت حافلة بوضع أسس بنّاءة لعالم جديد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد عقود من هيمنة الولايات المتحدة الأحادية الجانب على زمام الأمور في العالم، وذلك بعد سقوط المعسكر الشيوعي، وتفرّدها بالقرار الأحادي على الساحة الدولية.
كلمات قليلة للرئيس الصيني اختصرت المشهد بقوله: «روسيا والصين تعملان باستمرار على تعزيز الثقة السياسية المتبادلة، وتخلقان نموذجاً جديداً للعلاقات بين القوى العظمى». وقبل مغادرته موسكو قال جين بينغ: «هناك تغييرات لم تحدث منذ مئة عام. وعندما تجتمع روسيا والصين معاً، فإنهما ستقودان هذا التغيير».
بعد الحرب العالمية الثانية، تقاسم العالم معسكران كبيران: المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي، وما نشأ عنهما في ما بعد من حلف أطلسي عام 1949، وحلف وارسو عام 1955، ومن حرب باردة شهدها المعسكران.
ها هو التاريخ يعيد نفسه على مساحات جغرافية مختلفة. إذ ترسم اليوم موسكو وبكين خريطة جديدة للعالم بعد التحوّلات العميقة التي حصلت في دول أوروبا الشرقية اعتباراً من التسعينيات من القرن الماضي، بعد سقوط الأنظمة الشيوعية فيها، وسقوط حلف وارسو، والتحاق هذه الدول في ما بعد بالحلف الأطلسي، ليتمدّد ويتوسّع شرقاً ليصل إلى خاصرة روسيا.
التعاون الاستراتيجي البعيد المدى بين موسكو وبكين ينتشر على مساحة جغرافيّة تبلغ 27 مليون كلم٢ تمتدّ من الأورال إلى جنوب شرق آسيا، مع كلّ ما يتوفر لهذا التعاون من إمكانات اقتصادية ومالية وطاقوية وتجارية، وعلمية، ومعرفية، وعسكرية هائلة.
يأتي هذا التعاون في خضمّ الحرب الأوكرانيّة، التي تخوضها روسيا، وبعد سلسلة من الإجراءات القاسية قام بها الغرب لاستهداف مؤسسات روسيا المالية، وتجميد أصول مصرفها المركزي، لمنعه من استخدام احتياطيّه من النقد الأجنبي البالغ 630 مليار دولار. كما قام الغرب بعزل المصارف الروسية عن نظام المراسلة الدولي (السويفت)، وتجميد أصولها، وحظر واردات النفط والغاز الروسي، والرحلات الجوية الروسية في المجال الجوي للولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، ووقف تعامل العديد من الشركات الدولية مع روسيا.
ما أراده الغرب لتركيع روسيا بعد توقفه عن استيراد النفط والغاز منها، لم يعط نتيجته كما كان يُتوقع. إذ استطاعت روسيا الالتفاف على العقوبات، وإيجاد أسواق بديلة للنفط والغاز، وعلى رأسها الصين، بعد الحظر النفطي والغازي الذي فرضه الغرب عليها.
ما قاله الزعيم الصيني جين بينغ، من انّ الصين ستستمرّ في منح الأولوية للعلاقات الاستراتيجية مع روسيا، يجعل من هذه العلاقات أن تفرض نفسها على الساحة الصينية ـ الروسية، رغم ما يدور من حديث في أروقة السياسة الدولية، عن تنافس صيني ـ روسي على مراكز النفوذ في وسط آسيا (جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق)، وفي القارة الأفريقية، خاصة أنّ الغرب المتمثل بالولايات المتحدة وحلفائها، يسعى الى تطويق روسيا سياسياً، وأمنياً، وعسكرياً، فيما تسعى واشنطن الى تطويق الصين اقتصادياً وعسكرياً من خلال إحاطتها بقواعد عسكرية في الفليبين، وجزر مارشال، واليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، ونسج تحالفات كان آخرها تحالف أوكوسAUKUS في شهر نيسان 2021 الذي ضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا.
تحالف أوكوس يهدف الى تعاون ثلاثي لتطوير الأسلحة الفرط صوتية، وقدرات الحرب الالكترونية لمواجهة النفوذ الصيني في المحيط الهادي، فيما الصين اعتبرت هذا التحالف «يخاطر بإلحاق أضرار جسيمة بالسلام الإقليمي، وتكثيف سباق التسلح».
الاستراتيجيون العسكريون الأميركيون يعتبرون أنّ العقد الحالي هو الفاصل في تحديد السيطرة على المحيط الهادي، حيث يشكل جنوب بحر الصين أهمّ ممرّ تجاري في العالم، تمرّ فيه ثلث الشحنات البحرية العالمية، بقيمة تتجاوز 7 تريليون دولار، بالإضافة الى احتوائه على كميات كبيرة من النفط والغاز، والثروات السمكية، ما جعل الدول المطلة عليه تتنافس في الاستيلاء على الجزر المتناثرة فيه، التي يبلغ عددها 250 جزيرة، وأبرزها جزر سبراتلي SPRATLEYS، وبراسيل PARACELS .
روسيا والصين تواجهان معاً تحدياً مباشراً من الغرب، وما التعاون الاستراتيجيّ بينهما اليوم، إلا ضرورة حتميّة تمليها التطورات الدولية والتجاذبات، والتحالفات هنا وهناك. هذا التعاون لن يقتصر في المستقبل على الدولتين العظميين، بل ستنضمّ إليهما لاحقاً، قوى صاعدة مؤثرة لها دورها ووزنها على الساحة الإقليمية والدولية.
التعاون الاستراتيجي الصيني الروسي سيفرز العالم مرة أخرى بين قطبين او عدة أقطاب، وهذا الوضع سيؤدّي الى تنافس شديد، يمهّد مرة أخرى لحرب باردة، كلّ قطب فيه يجذب اليه دولاً تتماشى مع سياساته وتتناغم مع أهدافه. فأيّ خيار ستختاره دول صاعدة ومؤثرة حيال قطبي الشرق والغرب، وهي عديدة، مثل الهند وإندونيسيا، وباكستان وإيران والسعودية، والبرازيل وغيرها؟
عالم ينقسم من جديد، ولو بشكل آخر، من حيث الجغرافية، والأنظمة، والمفاهيم، والرؤى.
إذ ليست الايديولوجيا وحدها تحدّد في الوقت الحاضر سياسات الدول كما كانت عليه في زمن المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، وإنما التنافس على المصالح الاقتصادية والمالية والتجارية في الدرجة الأولى، التي تحدّد وتوجّه مسار وسياسات الدول الكبرى. وهذا ما سيزيد في المستقبل القريب، من حدة الصراع بين القطب الأميركي من جهة، والقطب الصيني ـ الروسي من جهة أخرى، مما سيدخل العالم مرة ثانية في حرب باردة، بدأت بوادرها في أوكرانيا وفي بحر الصين وجنوب شرق آسيا!
شي جين بينغ وفلاديمير بوتين دفنا في موسكو الأحادية القطبية نهائياً، ليقولوا للعالم كله إنّ الهيمنة الأميركية الأحادية انتهت، وإنّ عهداً جديداً من الأقطاب بدأ يرسم معالم الطريق لعلاقات دولية متوازنة، تختلف كلياً عما شهده المجتمع الدولي من أحادية قطبية أميركية شرسة بعد سقوط المعسكر الشيوعي برمّته وتفكك الاتحاد السوفياتي…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق