لم يعُد أمام الكيان العنصري «الإسرائيلي» المتمثل بمجرم الحرب نتنياهو من خيار، بعد أن فضحت غزة ومقاومتها الباسلة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وعرّت وحشيته أمام العالم كله، إلا الاستمرار في حرب الإبادة الجماعيّة، بعد أن عجز جيشه على مدار 83 يوماً عن تحقيق الهدف الذي رسمه، وهو القضاء نهائيّاً على المقاومة في غزة.
هدف حظي مسبقاً بدعم وتأييد رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، ورؤساء دول أوروبيّة أمثال ماكرون وسوناك وشولتز في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، الذين لا زالوا يختزنون في داخلهم بقايا تراثهم وإرثهم الاستعماريّ، وسياسات القهر والاستبداد، والسلوك العنصريّ القبيح بحق الشعوب الحرة المتطلعة الى العدل والسلام، التي آلت على نفسها أن تتحرّر من تسلط قوى الهيمنة والاستبداد، وقذارة سياساتها.
أراد نتنياهو من حرب الإبادة الجماعية الواسعة النطاق على غزة، إنهاء قضية الشعب الفلسطيني من جذورها بشكل حاسم، ومن ثم إعادة رسم خريطة المنطقة وتقسيمها بمشاركة حلفائه الغربيين، بما يتوافق مع مصالحهم ومصالح «إسرائيل» الاستراتيجية.
ثلاث ركائز أساسيّة قوية استند اليها نتنياهو وأخذها بالاعتبار مسبقاً وهو يخوض عدوانه على قطاع غزة وهي: الولايات المتحدة، أوروبا، وبعض الدول العربية المؤثرة التي لها علاقات عميقة واسعة مع الكيان الاسرائيلي، تشكل له احتياطاً مهماً، حيث تتماشى وتتوافق معه لجهة تصفية القضية الفلسطينية برمّتها.
زعماء دول التسلّط والانحياز الغربية، الداعمون كلياً لـ «إسرائيل»، أعطوا الضوء الأخضر لنتنياهو منذ اليوم الأول لعدوانه، للسير حتى النهاية، دون توقف في حرب الإبادة الجماعيّة، مع توفير الغطاء السياسي والدبلوماسي، والدولي له ولحكومته داخل الأمم المتحدة وخارجها.
أمام أهوال المجازر، والجرائم ضدّ الإنسانية، والقصف العشوائي، والإبادة الجماعية للمدنيين، التي لم يشهد العالم مثيلاً لها، ظلّ «ضمير» بايدن وسوناك وماكرون معطلاً، غائباً عن الساحة الفلسطينية غير آبه بما يجري على أرض غزة من مآسٍ وفظائع ضدّ الإنسانية يندى لها الجبين.
ما أوقح هؤلاء عندما يتكلمون عن الحرية، والعدالة، والديمقراطية وحقوق الإنسان! وما أقبح عهرهم السياسي عندما يكيلون بمكيالين، بعنصريتهم المقيتة، معتبرين أنّ الدم العربي رخيص، وأنّ الإنسان العربي لا يستحقّ الحياة، والحريّة، ولا يحقّ له أن يتحرّر من سطوتهم واستبدادهم، واستغلالهم!
هم المشاركون الفعليّون في إبادة فلسطينيي غزة، بعد إعطائهم الضوء الأخضر لنتنياهو كي يستمرّ جيشه الإرهابي في إبادته الجماعيّة لسكان غزة، بعد أن عطلوا بكلّ وقاحة وانحطاط أخلاقي مقيت، مشروع قرار أممياً في مجلس الأمن يهدف الى وقف دائم لإطلاق النار، على الرغم مما سبّبته وتسبّبه مجازر جيش الإرهاب الإسرائيلي كلّ يوم بحق الأبرياء المدنيين الذين تجاوز عددهم الـ 76 ألف إنسان بين شهيد وجريح.
بعد اليوم، عندما سنستمع الى تصريحات هؤلاء، ونفاقهم، ووقاحتهم، وعنصريتهم، وهم يصرحون، ويعظون، ويبدون حرصهم على الديمقراطية، وحرية الشعوب، وحقوق الإنسان في العالم، سنشعر بالقيء، وسنلعنهم ونبصق في وجوههم الوقحة.
إنّ موقف الثنائي الغربي الأميركي – الأوروبي الداعم لـ «إسرائيل»، لا يختلف كثيراً وللأسف الشديد، عن موقف بعض الحكام والزعماء العرب، حيث ترى فيهم «إسرائيل» إزاء ما تقوم به ضدّ الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، حلفاء وداعمين لها. موقف يحوز على رضاها وهم الذين يريدون قبل «إسرائيل» التخلص من قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته التي تقضّ مضاجعهم على الدوام.
لقد حمل العرب منذ النكبة عام 1948 شعار تحرير فلسطين، وجعلوها في اجتماعاتهم، ومؤتمراتهم، وبياناتهم، وتصريحاتهم، وقممهم، «قضيتهم المركزية». حتى إذا ما جدّ الجدّ، تكشّف معدن الكثير منهم، وبانت حقيقتهم، بعد أن أسقطت غزة ورقة التين عنهم، وبانت حقيقة «غيرتهم» على فلسطين، ليتبيّن للجميع مدى النفاق والدعم النظري العلني للقضية الفلسطينية، وحجم التواطؤ والتنسيق العملي السري مع «إسرائيل»، حيث كانوا الأوفياء لها، وعوناً وسنداً لسياساتها العدوانيّة، لتصل وقاحة البعض منهم إلى تبرير اعتداءاتها، ومجازرها التي ترتكبها في القطاع من باب الدفاع عن النفس، فيما فلسطينيو غزة يُبادون على مرأى من جامعة عربية معوقة لا طعم ولا لون، ولا حول ولا قوة لها. وفي الوقت الذي تلتزم الجامعة «العربية» وأمينها العام صمت القبور. تتظاهر شعوب العالم الحرة ضدّ دولة الإرهاب العنصرية، ومجرم الحرب نتنياهو، تندّد، تقاطع، تدين، تطالب حكامها القيام بعمل فوريّ لوقف مجازر «إسرائيل» الهمجية، نجد في المقابل شعوباً عربية تُمنع من التظاهر والتنديد بالعدوان من قبل حكامها.
ما كان مجرم الحرب نتنياهو ليتمادى ويستمرّ في عدوانه الهمجي، دون معرفته المسبقة جيداً، أنه يحظى بغطاء العديد ممن ابتليت بهم أمتنا، ووقوفهم الى جانبه للتخلص من قضية فلسطين التي تؤرقهم على الدوام، وتكشف وتعرّي سياساتهم، وتفضح تواطؤهم ومواقفهم السريّة المخزية.
لا تُطيل بعمر الكيان الإسرائيلي المؤقت، إلا مواقف وسياسات الخنوع لبعض الزعماء العرب الذين آثروا على مدى عقود، ومنذ النكبة عام 1948 أن تكون مواقفهم وسياساتهم النظرية مع فلسطين من باب المراوغة والنفاق، توظف في مجال الاستهلاك السياسي المحلي العربي لا أكثر.
ولولا العمالة والانبطاح لهؤلاء ما كانت «إسرائيل» لتجرؤ وتفعل فعلها على أرض غزة، إذ كانت على يقين من أنّ هؤلاء ارتضوا بإرادتهم أن يضعوا أنفسهم في خدمتها، وخدمة أسيادهم، ينفذون أوامرهم وإملاءاتهم، وإنْ كانت على حساب أمتهم وقضايا شعوبها المصيريّة.
بهذا الثلاثي الأميركي – الأوروبي – العربي، يستمرّ نتنياهو في حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الى أبعد الحدود، إذ لم يعد باستطاعة مجرم الحرب التراجع، أو الإقرار بالهزيمة، حيث الهاجس الذي يقضّ مضجعه، يكمن في مقاومة شعب أسطوريّ مرّغ أنفه في تراب غزة، وجعله يمضي ما تبقى من أيامه وجرائمه بين وهم الانتصار وسياسة الانتحار…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق